العقوبات البديلة بين منطق الإصلاح الجنائي و واقع التطبيق العملي
هل نحن أمام إصلاح حقيقي أم محطة تشريعية عابرة؟
الأستاذ أشرف بومسيس
محام متمرن بهيئة الرباط 
عضو شبكة محاميات و محاميي المنظمة المغربية لحقوق الإنسان
جاء إقرار نظام العقوبات البديلة في التشريع الجنائي استجابةً لإكراهات بنيوية عميقة تعاني منها منظومة العدالة الجنائية، و على رأسها أزمة العقوبات السالبة للحرية و ما ترتب عنها من اكتظاظ المؤسسات السجنية، و ارتفاع نسب العود، و ضعف فعالية العقوبة في تحقيق أهداف الإصلاح و الاندماج، و قد ساد في البدايات الأولى لدخول هذا النظام حيز النفاذ نوع من التفاؤل، تجسد في تواتر الأحكام القضائية القاضية بالعقوبات البديلة، بما أوحى بوجود تحول فعلي في السياسة العقابية.
غير أن هذا الزخم لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما عاد النطق بالعقوبات البديلة إلى دائرة الاستثناء، و أضحى التعليل القضائي في الغالب يرتكز على مبررات من قبيل الخطورة الإجرامية، أو عدم ملاءمة العقوبة البديلة لظروف الفعل أو الفاعل، مما يطرح تساؤلاً جوهرياً: هل شكل قانون العقوبات البديلة إصلاحاً جنائياً حقيقياً، أم أنه ظل رهين مقاربة تقليدية للعقاب؟
أولاً: الخلفية الإصلاحية للعقوبات البديلة
تقوم العقوبات البديلة على فلسفة عقابية حديثة، قوامها الانتقال من منطق الزجر والانتقام إلى منطق الإصلاح وإعادة الإدماج، من خلال:
-الحد من اللجوء إلى العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة؛
-الحفاظ على الروابط الاجتماعية والمهنية للمحكوم عليه؛
-إشراك المجتمع في تنفيذ العقوبة؛
-تعزيز مبدأ تفريد العقاب وربطه بشخصية الجاني لا بالفعل الإجرامي فقط.
وبذلك، لم يكن الغرض من هذا النظام مجرد تخفيف العبء عن السجون، بل إعادة تعريف دور العقوبة في المجتمع.
ثانياً: مظاهر التراجع في التطبيق العملي
رغم وضوح الخلفية الإصلاحية، فإن الممارسة القضائية أبانت عن عدة مظاهر للتراجع، من بينها:
-تحول العقوبات البديلة إلى خيار استثنائي بدل أن تكون الأصل في الجنح البسيطة؛
-التمسك الواسع بمفهوم الخطورة الإجرامية دون إخضاعه لتقييم موضوعي دقيق؛
-غياب تسبيب معمق يبرز سبب استبعاد العقوبة البديلة مقارنة بالعقوبة الحبسية؛
-تفاوت كبير في التطبيق بين المحاكم، بما يهدد مبدأ المساواة أمام القانون.
ثالثاً: أسباب تراجع العمل بالعقوبات البديلة
1-استمرار الذهنية العقابية التقليدية
لا يزال جزء من الفاعلين القضائيين ينظر إلى العقوبة السالبة للحرية باعتبارها الشكل “الأكثر جدية” للجزاء الجنائي، في حين تُنظر إلى العقوبات البديلة باعتبارها نوعاً من التساهل، وهو تصور يتعارض مع الفلسفة الحديثة للعقاب.
2-غموض مفهوم الخطورة الإجرامية
يُستعمل مفهوم الخطورة الإجرامية في كثير من الأحيان بشكل فضفاض، دون الاستناد إلى تقارير اجتماعية أو نفسية دقيقة، مما يجعله أداة لتبرير العودة إلى العقوبة الحبسية بدل توظيفه كمعيار علمي لتفريد العقاب.
3-ضعف البنية المؤسساتية المواكبة
إن نجاح العقوبات البديلة يفترض وجود أجهزة تتبع، ومؤسسات استقبال، وأطر مؤهلة للإشراف على التنفيذ، وهو ما لا يزال يعاني من نقص واضح، مما يدفع القاضي إلى اختيار العقوبة الأسهل من حيث التنفيذ، ولو كانت أقل نجاعة إصلاحية.
4-غياب تكوين متخصص
إن محدودية التكوين المستمر في مجال العدالة التصالحية والعقوبات البديلة تجعل بعض القضاة يتعاملون مع هذا النظام بتحفظ، لغياب الثقة في آلياته ونتائجه.
5-ضغط الرأي العام والخطاب الزجري
في ظل تنامي الخطاب المجتمعي المطالب بالتشديد والعقاب، يجد القاضي نفسه أحياناً محاصراً بهاجس “الأمن الجنائي”، مما يدفعه إلى تبني حلول تقليدية تجنباً للانتقاد.
رابعاً: نحو إعادة الاعتبار للعقوبات البديلة
إن الإصلاح الجنائي الحقيقي لا يمكن أن يتحقق دون القطع مع التراكمات السابقة، وإعادة فهم أدوار العقوبة في بعدها الاجتماعي والإنساني، ويقتضي ذلك:
تكريس العقوبات البديلة كخيار أصلي لا استثنائي؛
ضبط مفهوم الخطورة الإجرامية بمعايير علمية دقيقة؛
تعزيز البنية المؤسساتية والتنفيذية المواكبة؛
تعميم التكوين المتخصص للقضاة وباقي الفاعلين؛
نشر ثقافة مجتمعية تؤمن بأن الإصلاح أولى من الزجر.
ختاما، نود أن نشير على أن قانون العقوبات البديلة يشكل من حيث النص خطوة متقدمة في مسار تحديث السياسة الجنائية، غير أن فعاليته تظل رهينة بإرادة حقيقية لتغيير العقليات، وتجاوز المقاربة الزجرية التقليدية، فبدون ذلك، سيظل هذا القانون مجرد محطة تشريعية عابرة، بدل أن يكون رافعة حقيقية لإصلاح العدالة الجنائية وتحقيق الإدماج الاجتماعي للمحكوم عليهم.




