بقلم أمين سامي خبير الاستراتيجية و قيادة التغيير للشركات و المؤسسات و الاستراتيجيات التنموية
اليوم، و نحن على مشارف الدورة التاريخية الجديدة، الثورة الصناعية الرابعة أو ثورة تكنولوجيا القطيعة، و قد سميت بهذا الاسم لأنها تشير إلى الطبيعة الراديكالية لهذه التقنيات في تغيير الأنظمة القائمة و إحداث قطيعة معها. و بالتالي هذا المصطلح يبرز الطابع المبتكر و الغير تقليدي لهذه التقنيات و قدرتها على إعادة تشكيل المستقبل.
فتسمية “تكنولوجيا القطيعة” (Disruptive Technology)، تأتي من طبيعة هذه التكنولوجيا في إحداث تغيير جذري و قطع مع الأنماط التقليدية السابقة في المجالات الاقتصادية، الاجتماعية، و الثقافية، فمن أسباب هذه التسمية :
1. تغيير جذري في النماذج التقليدية، فهذه التكنولوجيا تؤدي إلى إحداث قطيعة مع الطرق التقليدية للعمل والتفكير.
2. إعادة تشكيل القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، فتكنولوجيا القطيعة تغير قواعد اللعبة في القطاعات المختلفة.
3. تحدي الهياكل القائمة، فهذه الأخيرة (التكنولوجيا)، تتحدى الشركات والمؤسسات التقليدية، مما يؤدي إلى انهيار بعض النماذج القائمة واستبدالها بأخرى جديدة، أو إعادة هيكلة جوهر أعمالها بشكل جذري.
4. سرعة التغيير والتأثير غير المتوقع، فتكنولوجيا القطيعة غالبًا ما تظهر بسرعة وتجلب معها تأثيرات غير متوقعة، مما يجعل من الصعب على الأفراد أو المؤسسات مواكبتها.
5. أثرها على السلوك والقيم المجتمعية، إن التكنولوجيا المقطعة تؤثر بشكل عميق على طريقة حياة الأفراد وقيمهم.
6. عدم القدرة على العودة للنمط السابق، فبعد ظهور تكنولوجيا القطيعة، يصعب أو يستحيل العودة إلى النمط التقليدي.
وبالتالي فنحن على مشارف الدورة التاريخية الجديدة ونهاية الدورة التاريخية السابقة المعتمدة على الطاقة الأحفورية بشكل كبير، وبالتالي فجميع المؤشرات تؤكد على بداية الدورة الجديدة، وهذه المؤشرات تتمركز في أربعة عناصر أساسية والمتأثرة بشكل مباشر في أي دورة جديدة وهي الأسرة والمدرسة والسوق والمهن، وبالتالي فحديثنا اليوم سيكون عن مستقبل المنظومة الأسرية، وليس الأسرة.
إن المنظومة الأسرية تعبر عن نظام ديناميكي يربط الأسرة بمحيطها الداخلي والخارجي. وتشمل هذه المنظومة العلاقات التفاعلية بين أفراد الأسرة وتأثيراتهم المتبادلة مع البيئة الاجتماعية، الثقافية، والاقتصادية. وبالتالي فالمنظومة الأسرية تهتم بالنظام الشامل للأسرة ككل، بما في ذلك الأدوار، والقواعد، والأنماط السلوكية، والعلاقات داخل الأسرة ومع المجتمع.
حيث تنظر هذه المنظومة إلى الأسرة كوحدة ضمن شبكة أكبر تتفاعل مع مؤسسات أخرى مثل المدرسة، المجتمع المحلي، والاقتصاد.
إن الأسرة هي المكون الأساسي للأفراد والعلاقات المباشرة داخلها، بينما المنظومة الأسرية تمثل النظرة الشمولية لهذه العلاقات وتأثيرها المتبادل مع المحيط الاجتماعي والثقافي.
فالأسرة، باعتبارها النواة الأساسية للمجتمع، تأثرت بشدة بالتحولات الناتجة عن تكنولوجيا القطيعة، وهي تحولات لا تقتصر على الجوانب التقنية بل تمتد لتعيد تشكيل القيم، الأدوار، والعلاقات داخل الأسرة. وبالتالي يمكن تحليل هذا التأثير بشكل نسقي من خلال ثلاثة مستويات مترابطة:
1. الأنساق الداخلية للأسرة (العلاقات والأدوار داخل الأسرة).
2. التفاعل بين الأسرة والمجتمع (التأثيرات المتبادلة بين الأسرة والمجتمع الخارجي).
3. تأثير التكنولوجيا كمتغير خارجي (كيف غيّرت التكنولوجيا البيئة التي تعمل فيها الأسرة).
1. فعلى مستوى الأنساق الداخلية للأسرة، عرف تغير الأدوار التقليدية، خاصة دور الأبوين، حيث أصبحت التكنولوجيا مصدرًا أساسيًا للمعلومات التي يتلقاها الأطفال، مما قلل من دور الآباء كمصدر وحيد للتربية والتوجيه. كما عرف ظهور “الأبوين الرقميين” الذين يعتمدون على التطبيقات والتكنولوجيا لإدارة شؤون الأطفال (مثل التعليم الرقمي، المراقبة الإلكترونية).
أما على مستوى دور الأبناء، فقد تطور دور الأبناء ليصبحوا خبراء التكنولوجيا داخل الأسرة، مما أضاف لهم سلطة غير تقليدية في اتخاذ القرارات المتعلقة بالتكنولوجيا.
كما ساهم تراجع التواصل المباشر بين الآباء والأبناء في تعميق الهوة العاطفية، حيث ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي والأجهزة الذكية من تقلّيل الحوار المباشر داخل الأسرة، مما أدى إلى ضعف الروابط العاطفية.
كما أصبحت الأنشطة العائلية التقليدية مثل تناول الوجبات معًا تُستبدل بالأنشطة الفردية عبر الأجهزة.
وبالتالي هذا أدى الى صراع الأجيال وتصادم القيم، فالجيل الجديد يتبنى قيمًا فردانية متأثرة بالعولمة الرقمية، مما يؤدي إلى تصادم مع القيم التقليدية التي يحاول الأهل غرسها.
2. التفاعل بين الأسرة والمجتمع، حيث عرف انتقال القيم عبر التكنولوجيا، هذه الأخيرة جعلت الأسرة مفتوحة على القيم العالمية، حيث يتعرض أفرادها لقيم تختلف عن قيمهم المحلية و الثقافية، مما يخلق صراعًا داخليًا، وأمام هذا الوضع أصبحت الأسرة تواجه تحديًا في الحفاظ على الهوية الثقافية أمام العولمة الرقمية.
كما عرف مفهوم الأسرة نقاشا حول إعادة تعريف الأسرة كمنظومة، فمفهوم الأسرة التقليدية (النووية أو الممتدة) بدأ يتغير، وبدأت تدخل مفاهيم جديدة نتيجة للتحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتطور منظومة حقوق الإنسان، وبروز العولمة وتأثيراتها، أصبح اليوم النقاش يدور حول إعادة تعريف الأسرة كمنظومة، ليشمل أسرًا ذات تكوينات جديدة، مثل الأسر أحادية الوالد أو الأسر المتعددة الثقافات.
فالتكنولوجيا وفّرت منصات لظهور علاقات جديدة (مثل الزواج عبر الإنترنت) التي تختلف عن النماذج التقليدية للزواج.
كما أن للتأثير الاقتصادي دور كبير على إعادة تعريف وتشكيل الأسرة المستقبلية، فمؤخرا أصبح الاعتماد الكبير للأسرة على الأجهزة الذكية والاشتراكات الرقمية سببا في زيادة الأعباء المالية، ففرص العمل عن بُعد والتجارة الإلكترونية وفرت بدائل دخل جديدة للأسرة، لكن بالمقابل ساهمت بشكل كبير في تفكك الأدوار التقليدية للعمل داخل الأسرة.
كما أدت التكنولوجيا كمتغير خارجي، في مساعدة الأسرة على إدارة حياتها بشكل أفضل، حيث أضحت التكنولوجيا كأداة للتمكين، حيث ساهمت هذه الأخيرة على تطوير حياة المنظومة الأسرية بشكل كفء، من خلال استخدام الأجهزة الذكية لإدارة الوقت والتسوق والتعليم. وبالتالي سهّلت التكنولوجيا التواصل بين أفراد الأسرة الممتدة في أماكن جغرافية مختلفة.
بالمقابل تعتبر التكنولوجيا كمصدر للاضطراب، حيث يعتبر الإدمان التكنولوجي، من أخطر الأمراض التكنولوجية التي يصاب بها الفرد، من خلال استخدام الأبناء والأهل للتكنولوجيا بشكل مفرط مما أدى إلى ضعف الروابط العائلية وظهور مشكلات مثل العزلة الاجتماعية.
فبالاضافة الى الادمان التكنولوجي، تعتبر الخصوصية من أهم التحديات التي يواجهها الفرد، فمع التطور التكنولوجي والصبيب العالي للانترنيت، انكشفت الحياة العائلية على الإنترنت، وبالتالي هذا زاد من مخاطر اختراق الخصوصية والتعرض للتنمر أو الابتزاز.
وأخيرا التكنولوجيا كمعيار جديد، حيث أصبحت التكنولوجيا معيارًا لتقييم نجاح الأسرة (الأسرة المتطورة تقنيًا)، وبالتالي هذا أضاف ضغطًا جديدًا على الأسر الأقل قدرة على مواكبة التقدم التكنولوجي.
إن التحليل النسقي للعلاقات، يجب أن تتم قراءته وتحليله من خلال الترابط بين الأنساق الثلاث، من خلال :
الأنساق الداخلية للأسرة هذا أولا، وثانيا من خلال التفاعل بين الأسرة والمجتمع، وثالثا من خلال تأثير التكنولوجيا كمتغير خارجي على الأسرة.
إن ضعف التواصل داخل الأسرة يؤدي إلى فقدان تأثير الأسرة على القيم التي يتبناها الأبناء، مما يترك المجال للمجتمع والتكنولوجيا لفرض قيم جديدة. فالتغيرات في القيم العائلية تنعكس على علاقة الأسرة بالمجتمع، مثل زيادة الطلاق أو تغير دور المرأة في الأسرة.
كما أن تأثير الدور المهيمن للتكنولوجيا، حيث أصبحت “نسقًا مهيمنًا” يؤثر على كل الأنساق الأخرى (العاطفية، الثقافية، الاقتصادية)، مما جعل الأسرة في حالة دفاع مستمر عن استقرارها.
وبالتالي فالأدوار الجديدة للأسرة، تحتاج للربط، فهذه الأخيرة مدعوة للتحديث وتحتاج إلى تطوير أدوار جديدة تربط بين القيم التقليدية والحديثة لتكون قادرة على البقاء وسط هذا التغيير السريع المتسارع.
إن تكنولوجيا القطيعة أحدثت قطيعة نسقية في مفهوم الأسرة من خلال إعادة تشكيل الأدوار والقيم والعلاقات. وبالتالي فالأسرة بحاجة ماسة إلى التكيف مع هذه التغيرات من خلال تعزيز الحوار الداخلي، والاستفادة من التكنولوجيا كأداة تمكين، والعمل على التوازن بين الحفاظ على الهوية الثقافية ومواكبة العصر الرقمي. إن هذا التحليل النسقي يبرز أن الأسرة ليست فقط متأثرة بهذه التغيرات بل هي أيضًا فاعل يمكنه التأثير على كيفية استيعاب هذه التكنولوجيا ضمن إطارها الخاص.