الأستاذ أشرف بومسيس
محام متمرن بهيئة الرباط
عضو بشبكة محاميات ومحاميي المنظمة المغربية لحقوق الإنسان
باحث بسلك الدكتوراه بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال الرباط

يشكل مشروع القانون الجديد المنظم لمهنة المحاماة محطة تشريعية مفصلية، لما للمهنة من ارتباط عضوي بحق الدفاع باعتباره أحد المرتكزات الجوهرية لدولة القانون والمؤسسات، غير أن القراءة المتأنية لمقتضيات هذا المشروع تثير جملة من التحفظات العميقة، سواء على مستوى فلسفته العامة أو على مستوى مدى انسجامه مع المبادئ الدستورية والمعايير الكونية المؤطرة لممارسة حق الدفاع.
إن مهنة المحاماة ليست مجرد نشاط مهني يخضع لمنطق الضبط الإداري أو التنظيم التقني، بل هي رسالة سامية تضطلع بدور محوري في حماية الحقوق والحريات، وضمان التوازن بين أطراف الخصومة، وصيانة شروط المحاكمة العادلة. ومن هذا المنطلق، فإن أي تشريع يؤطر المهنة يفترض أن ينطلق من مبدأ استقلال المحامي، باعتباره شرطاً جوهرياً لا محيد عنه لممارسة فعالة وغير مقيدة لحق الدفاع.
غير أن مشروع القانون الجديد، في عدد من مقتضياته، يكرس توجهاً مقلقاً من شأنه المساس بجوهر هذا الاستقلال، عبر فرض آليات تنظيمية ورقابية تجعل من المحامي، عملياً، أداة قابلة للتحكم والتوجيه من قبل بعض الجهات(وزارة العدل -النيابةالعامة) بما يحد من حريته في الأداء المهني ويقيد سلطته في الدفاع عن موكليه، وهو ما يشكل، في عمقه، انتهاكاً مهنياً لرسالة الدفاع، وضرباً صريحاً لمبدأ استقلالية المحاماة كما استقر عليه الفقه القانوني المقارن، وأكدته المواثيق الدولية، وعلى رأسها المبادئ الأساسية بشأن دور المحامين.
ولعل من أخطر ما يكرسه المشروع الجديد هو النزوع الواضح نحو إعادة تشكيل التوازن داخل منظومة العدالة على نحو غير متكافئ، وذلك من خلال تقوية صلاحيات بعض الجهات المتدخلة في سير العدالة، مقابل إخضاع المحامي لمزيد من القيود والضوابط التي تمس جوهر استقلاله المهني، وهو توجه يؤدي، عملياً، إلى إضعاف موقع الدفاع داخل البناء القضائي، في تعارض صريح مع فلسفة العدالة القائمة على تكافؤ الأدوار وضمان التوازن بين مختلف الفاعلين.
فبدلاً من تحصين المحامي وتمكينه من الضمانات القانونية الكفيلة بممارسة مهامه باستقلال وطمأنينة، اختار المشروع الجديد توسيع دوائر الرقابة والتدخل في شؤونه المهنية، سواء عبر آليات تأديبية موسعة، أو شروط ممارسة صارمة، أو مقتضيات تفتح المجال لتأثيرات خارجية تمس بحرية القرار المهني للمحامي، وهو ما يحول الاستقلالية من مبدأ مؤسس إلى امتياز قابل للتقييد، ومن ضمانة دستورية إلى وضعية مشروطة.
إن هذا التوجه التشريعي لا يمس فقط بالمهنة في بعدها التنظيمي، بل يطال بشكل مباشر مبدأ فصل السلط في بعده الوظيفي، ذلك أن إضعاف الدفاع مقابل تقوية أطراف أخرى داخل العدالة يُفرغ هذا المبدأ من محتواه العملي، ويُحدث خللاً في التوازن المؤسساتي الذي يفترض أن يضمن لكل فاعل موقعه المستقل وأدواته المتكافئة، فلا يمكن الحديث عن عدالة ناجزة في ظل دفاع مقيد، ولا عن محاكمة عادلة في ظل محامٍ يعمل تحت هاجس الرقابة أو التبعية.
كما أن هذا الاختلال التشريعي يهدد مبدأ الأمن القانوني، القائم على وضوح القواعد واستقرار المراكز القانونية وقابلية التوقع، إذ إن إخضاع الممارسة المهنية لمقتضيات فضفاضة أو قابلة لتأويلات واسعة من شأنه أن ينعكس سلباً على حرية الدفاع، وعلى ثقة المتقاضين في فعاليته، وعلى جودة العدالة بوجه عام.
ولا يقف القصور عند حدود الاستقلالية، بل يمتد ليشمل رؤية المشروع لمستقبل المهنة. فرغم صدوره في سياق عالمي يشهد تحولات تكنولوجية عميقة ومتسارعة، فإن المشروع لم يمنح المحامي المكانة التي يستحقها ضمن المنظومة الرقمية الجديدة، واكتفى بتأطير الممارسة التقليدية الصرفة، متجاهلاً الأدوار المتجددة للمحامي في مجالات العدالة الرقمية، والتقاضي الإلكتروني، وحماية المعطيات الشخصية، والتحديات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي القانوني.
إن تغييب البعد التكنولوجي لا يعكس فقط قصوراً تشريعياً، بل يكرس تصوراً تقليدياً جامداً لمهنة يفترض فيها أن تكون في صلب التحولات القانونية والمؤسساتية، فالمحامي اليوم لم يعد مجرد فاعل إجرائي، بل أضحى مساهماً أساسياً في بناء الأمن القانوني الرقمي وضمان ولوج فعال وعادل إلى العدالة.
وخلاصة القول، فإن مشروع القانون الجديد، بصيغته الحالية، يطرح إشكاليات حقيقية تمس استقلال مهنة المحاماة، وتخلّ بالتوازن المؤسساتي داخل منظومة العدالة، ولا يواكب التحولات العميقة التي يعرفها العالم المعاصر، وهو ما يستدعي إعادة النظر في فلسفته العامة، والانخراط في مقاربة تشاركية حقيقية تجعل من استقلال الدفاع أولوية، ومن المحامي فاعلاً دستورياً كاملاً، لا مجرد موضوع للتقنين والتقييد، حفاظاً على رسالة المحاماة، وصوناً لدولة الحق والقانون.




